كتابة تيا البارود
في إطار درامي مشوق ومحكم السرد، يقدم مسلسل “إش إش” توليفة متوازنة بين تصاعد الأحداث وبناء الشخصيات بذكاء. في صلب الحكاية، تواصل مي عمر ترسيخ مكانتها كعنصر أساسي في المشهد الرمضاني، بفضل قدرتها اللافتة على التنقل بين أدوار متباينة تضعها كل مرة أمام تحدٍ جديد. بعد تألقها في أدوار مختلفة، من مطربة تطارد الحلم إلى محامية تناضل لتحقيق العدالة، تجسد هذا الموسم شخصية راقصة تواجه واقعها بشجاعة وتناقضات إنسانية تضفي على الشخصية أبعادًا نفسية ممتعة. بحضورها الآسر وأدائها المدروس، تثبت مي عمر أنها لا تقدم مجرد شخصيات، بل تجارب تعيش وتتنفس داخل كل مشهد، مما يجعلها ركيزة أساسية لأي عمل تشارك فيه، قادرة على نقل أدق التفاصيل والانفعالات.
قدمت مي عمر في هذا الدور أداءً مبني على تدرجات نفسية دقيقة، حيث جسّدت شخصية راقصة ترفض الرقص، لكنها تجد نفسها عالقة في إطار مفروض عليها لأسباب خارج إرادتها. من خلال لغة الجسد المدروسة وتعبيرات وجهها المليئة بالانفعالات المخبأة داخليًا، استطاعت أن تنقل إحساس التمزق الداخلي بين واجب الاستمرار في الرقص لضمان لقمة العيش، وطموحها الخفي في التغيير والدراسة لتحقيق ذاتها بعيدًا عن هذا العالم. لم يقتصر أداؤها على التعبير بالكلمات فقط، بل كانت الصمت واللمحات العابرة في عينيها أحيانًا كفيلين بإيصال معانٍ أعمق، تعكس أوجاع الشخصية وتطلعاتها المدفونة.

ما يميز الشخصية هو حركتها الدائمة ورفضها الاستسلام للظروف، وهي سمة ظهرت بوضوح في مشاهد التحول الدرامي عندما تعرّضت للخداع للمرة الأولى. مي عمر نقلت ببراعة التحول التدريجي من البراءة إلى شخصية أكثر صلابة وتعطشًا للانتقام، حيث لم يأت هذا التحول بشكل مفاجئ، بل تطور على مراحل، مما أضفى مصداقية أكبر على الشخصية وجعلها أقرب إلى المشاهد. وقد بدت في هذه المشاهد أكثر تحكمًا في تعبيراتها، حيث أتقنت الانتقال بين دهشة الخيانة الأولى إلى مرحلة الغضب المكتوم ومعرفة الحقائق، ثم إلى اتخاذ قرارات انتقامية تدريجية، مما جعل الجمهور يشعر وكأنه يرافق الشخصية في رحلتها النفسية الثقيلة.
بعدما انطلقت الشخصية في مسار انتقامي واضح، شهدت تطورًا جديدًا مع دخول الحب إلى حياتها، مما أضاف تعقيدًا آخر إلى تركيبتها النفسية. هنا نجحت مي عمر في أداء الصراع الداخلي باحترافية عالية، حيث انعكس التوتر العاطفي بوضوح في مزيج من الحيرة والارتباك والانجذاب غير المتوقع. إيماءاتها، نظراتها، وحتى نبرات صوتها المتغيرة بين التردد والثقة، كلها أسهمت في إظهار شخصية بدأت تعيد النظر في أهدافها، مع التراجع عن بعض الخطط الانتقامية. هذا التراجع لم يُظهرها ضعيفة، بل جعل الشخصية أكثر نضجًا ووعيًا، وأضفى بعدًا إنسانيًا يعكس التطور الطبيعي لشخصية تواجه الحب للمرة الأولى وسط أجواء مليئة بالغضب والرغبة في الانتقام.
ما زاد من جاذبية الشخصية هو أسلوبها الخاص في التعبير عن مشاعرها وأفكارها، حيث أضفت عليها مي عمر طابعًا مميزًا من خلال استخدام مصطلحات خاصة، وحركات عفوية أعطت للشخصية بصمة لا تُنسى. لم تكن الكوميديا في أدائها مفتعلة أو مبالغًا فيها، بل جاءت خفيفة وطبيعية، تخفف من حدة الدراما وتمنح الشخصية جاذبية إنسانية محببة. قدرة مي عمر على الجمع بين التراجيديا والكوميديا بانسيابية أضافت للشخصية طابعًا معقدًا وممتعًا في الوقت ذاته، حيث يجد المشاهد نفسه متأرجحًا بين التعاطف مع أوجاعها والابتسام من عفويتها وذكائها اللماح.

أما في مشهد الاعتراف الذي يعد بمثابة “ماستر سين” للعمل، فقد قدمت أداءً استثنائيًا في لحظة تحمل كل معاني الفقد والألم. كان هذا المشهد محمّلا بالإحباط والحزن العميق. مشهد الاعتراف، حيث تكشف الشخصية عن مخططاتها وما كانت تخطط له لزوجها، كان مليئًا بالتعقيد العاطفي. أظهرت فيه مي ببراعة الصراع الداخلي، من خلال تعبيرات وجهها التي تبدو مشوشة، ونظراتها التي تنطق بكل مشاعرها المخنوقة، بالإضافة إلى نبرة صوتها المملوءة بالحزن والإرهاق. هذه اللحظة كانت بمثابة ذروة في تطور الشخصية، التي كان حزنها المترسخ عميقًا، وكان أداؤها مؤثرًا بدرجة عالية، مما جعل المشهد واحدًا من أبرز لحظات العمل التي ستظل عالقة في ذهن المشاهدين.
اسم الشخصية “شروق” يرتبط بعمق مع تطور الشخصية ومراحلها النفسية طوال العمل، حيث يعكس هذا الاسم معاني الأمل والتجدّد الذي يطرأ على حياة البطلة. في البداية، كانت “شروق” تجسد شخصًا عالقًا في ظل واقع قاسٍ، تتخبط بين واقع فرض عليها وبين أحلام لم تحققها بعد. لكن مع مرور الأحداث، بدأ اسمها يتخذ أبعادًا أكثر دلالة، فهو ليس مجرد اسم عابر، بل هو تجسيد حقيقي لشخصية تسعى لتحقيق انطلاقة جديدة. مثل الشروق الذي يحمل في طياته بداية جديدة ليوم جديد، ومع تطور الأحداث، يشبه اسم “شروق” التحول الذي شهدته الشخصية، حيث أن كل لحظة انتصار، حب، أو حتى ألم، كان بمثابة شروق جديد في حياتها، يضيء دربها ويمنحها القوة للمضي قدمًا.
بفضل هذا الأداء المتوازن بين التوتر الدرامي واللمسة الكوميدية المرحة، استطاعت مي عمر أن تصنع شخصية حية، مليئة بالتناقضات، تتحرك بين الانتقام والحب، القوة والهشاشة، الانتفاض والاحتواء. وبرغم كل التحولات التي مرت بها الشخصية، ظل أداؤها متماسكًا ومتقنًا، مما جعلها شخصية ستبقى عالقة في ذهن المشاهد.