“الصورة الأخيرة” 2021 وثائقيّ عن التوثيق

يتناول المخرج التونسي أيمن يعقوب في منتجه الأخير “الصورة الأخيرة” و هو وثائقي قصير من انتاج قناة الجزيرة الوثائقية لسنة 2021 حكاية مصوّر فوتغرافي تونسي، أمين بوصفارة، وعلاقته بتوثيق بنايات في تونس.
ينطلق الفيلم من مدينة المهديّة، مسقط رأس أمين، لنكتشف سحر ضوئها الذي كان أحد أسباب ولعه بفنّ التصوير. ثم يصطحبنا صانع الفيلم مع بطله عبر القطار الى تونس العاصمة أين يقيم الفوتوغرافي و أين تطوّر شغفه من بحث عن الجماليّة الى فعل توثيقي و شاعريّ في آن واحد.
عنوان مستفز:
يثير اختيارالمخرج لعنوان الفيلم حيرة لدى المتلقّي: الصّورة الأخيرة. أوّلا أيّة صورة؟ هل هي الصّورة التي ينقلها لنا المخرج أم هي تلميح لمجمل الصّور التي يلتقطها الفوتغرافي؟ هل هي آخر صورة يلتقطها المصوّر كما حدث في الوثائقي التشيلي “اللقطة الأخيرة” ليوشوّقنا المخرج و يفزعنا عبر فرضيّة خطر ما يهدّد المصوّر الفوتوغرافي؟ أم هل هو فقط يطلق صرخة للفت الانتباه بأنّ البنايات القديمة موضوع أمين ستسقط بعد آخر صورة يلتقطها لها؟ أم هل ستتغيّر بعض ملامحها؟ أم هل هي منجزات أخيرة على هذا النحو و الصّورة؟ عنوان يطرح تساؤلات عدّة.
كل صورة هي حتما أولى و جديدة فللشياء و الشخوص دوما حالات مختلفة عن السابق مادام الزمن و البشر يتركان بصمات على وجوه البشر و الأشياء. لكن ما الذي يؤكّد أن لكلّ شيء صورة أخيرة؟ يأتي هذا العنوان ليستفزّ فضولنا لاكتشاف الإجابة.
توثيق شاعري في معركة مع الزمن:
مسلّحا بكامرته و قبّعة وخاصّة بشغف توثيق الجمال يزاحم أمين الزّمن و الضوء و الزوايا ليلتقط حكايات كان الخيط الرابط بينها أبواب و شرفات وجدران قديمة. شغفه يسابق الوقت و يترصّد فعل الانسان و الزّمن عليها. وجل و خوف من الاندثار يدفع الفتوغرافي للقيام “بمسح” على حدّ تعبيره للبنايات القديمة المترامية في أحياء تونس العاصمة الى حدّ يشعرك أنه يحتضنها بعين عدسته و قلبه معا. نقوش و وجوه و أجساد نحتت على الجدران شواهدا على فنّ و حقبة من التاريخ. هو لا ينفض عليها غبار النسيان و التجاهل فقط بل يحتفي بها و يستدعيها في اطارات لتسافر معه عبر معارض و مساحات أخرى. يقول أمين في حديثه “خلّوني بيني و بين الحيوط”. في زمن قلَت فيه جدوى الحديث مع الأشخاص يصبح الجدل و التناغم و الاحساس مع الجدران أجدى. يتنقل أمين و كامرته العين الثالثة تبحث عن شبابيك و بلكونات و جدران مختلفة لتضيفها الى الصور المخزنة و تصبح ذاكرة حيّة يمكن الرجوع لها من طرف فنان أو باحث في الفن أو مؤرّخ. يقول أمين البنايات كأنها أشخاص يعيشون بيننا بلا بطاقات تعريف.لذلك يضعها في محامل لتسافرفي المكان و الزمان.
حين يلتقط أمين صورة و كأنه يكتب قصّة يحسّ تفاصيلها. صوره لا تجسّد المكان و الزّمان. هي تعيد انتاجهما بأسلوبه الخاص عبر معالجة بصريّة. يركّز بطل الفيلم في صوره على النوافذ و الأبواب و الشرفات. ترى كم من حكاية بشخوصها مرّت من هناك؟ أمام تلك الأبواب و عند تلك الشرفات و من وراء تلك النوافذ؟ أو ليست الصورة في النهاية نافذة على العالم بأسره ترنو الى كشف تفاصيله. بمشاهدة الفيلم ندرك أن أمين في حالة عشق خاص و علاقة شاعريّة مع تلك الأمكنة و الشّخوص. عبر ملاحظة اختيار اللحظة و الضوء و ارتسامات الظل و الزاوية يمكن للمشاهد الاحساس بشعرية الفوتوغرافي و شاعريته. بعد التقاط الصورة يصبح الثّابت متحرّكا و يحنّط المتحرّك لتتمعّن العين في جمال تفاصيل قد تمّحي عبر الزمن.
السينما عين أو اقتفاء الأثر:
ما يلفت الانتباه في فيلم الصورة الأخيرة هو التوازن بين تقديم المصوّر و المادة التي يصوّرها. نحن نرى عبر كامرة المخرج و عينيه و عبر كامرة أمين و عينيه كذلك.
تحتوي كامرا المخرج المصوّر الفتوغرافي و آلة تصويره و ما يصوّره معا لتكون وراء الحكاية فتذكّرنا بفيلم دزيقا فرتوف “الرّجل و الكامرا” ترى ما يراه فيصبح هو الشاهد و الموثّق كما يكون الفيلم شهادة بصريّة على كل ذلك. يصحبنا أمين لنكتشف شرفات و جدران و شخوص يحبّهم, يعرفون المباني و تاريخها و يعبّرون على امتعاضهم من الهندسة الجديدة التي يغيب فيها الجمال و الفنّ ليأخذ مكانهما زجاج و حديد بلا روح. يعبّر الفوتوغرافي بدوره عن قلقه من التشويه المحدث على النقوش و المجسّمات في جدران المباني القديمة. انسان اليوم البرغماتي لم يعد يهتم بالجماليّات فتراه يمدّ خيوط الكهرباء و التكييف فوق الرسومات و النقوش و يشوِّهها و يحجب جمالها.
تقنيات السرد عند الفوتوغرافي:
اختارالمخرج أن يكون بطل الفيلم هوالراوي بدلا عن شخص آخر من خارج الفيلم. يستشف المشاهد قدرة الفوتوغرافي و تمكنه من سرد الحكايات لا عبر الصور فقط بل كذلك عبر الكلام فلأمين مهارة فذة لحكي ما يختلج بقلبه و عقله. هو يعلم جيدا أن وراء كل صورة حكاية لها إطارها و لها تفاصيلها. تارة يحدثنا أمين عن أماكن زارها بعينه و قلبه و كامرته و تارة يستدعينا معه في مشواره اليومي ليصبح ذلك المشاء الراوي لتفاصيل رحلته الفوتغرافية.
اعتمد مخرج الفيلم بناء كرونولوجيّا و مونتاجا بسيطا بعيدا عن الابهار و التعقيد المجاني. كما اعتمد إيقاعا هادئا و شديد التكثيف. كل ذلك كان مناسبا لجعل الفيلم سلسا و متماشيا مع طبيعة موضوعه التوثيقي.
من بين أحلام أمين عرض صوره و كذلك وضعها في كتاب علّه يلهم من سيأتون بعده بالعودة الى تشييد معمار فيه جمالية كتلك التي تتآكل اليوم و تندثر على مرمى من أعيننا. هكذا جعل البحث عن الجمال أمين يندمج في فعل توثيقي تأريخي. ندرك عند مشاهدة الفيلم أننا أمام بنايات و تحف فنيّة فرنسيّة على أرض تونسيّة. شيّدت تلك المنجزات في حقبة ما قبل استقلال البلاد التونسيّة.
في حاضر يطغى عليه الافتراضي الذي أصبح قادرا على اختزال المشاعر و الذكريات و الاحتفاض بها صورا و نصوصا و أصوات عبر شبكات عنكبوتية هل يكتفي الانسان و يحتفي بهذا المنجز العنكبوتي الهلامي أم هي خطوة نحو فعل يربط الماضي بالمستقبل لبناء انسانيّ و فنيّ أفضل؟
يثبت فيلم “الصورة الأخيرة” أن الصورة تخلّد المكان و اللحظة و هي الأكثر وفاء للتاريخ و الجغرافيا معا. حيث يمكن لها أن تهمس و أن تصرخ و أن تحوي حكايات تتحدّى عديد الصفحات بنصوصها و تتفوق عليها دقة و شاعرية.
حسين ثابتي
مارس 2021

spot_imgspot_img
[tds_leads title_text="Subscribe" input_placeholder="Email address" btn_horiz_align="content-horiz-center" pp_checkbox="yes" pp_msg="SSd2ZSUyMHJlYWQlMjBhbmQlMjBhY2NlcHQlMjB0aGUlMjAlM0NhJTIwaHJlZiUzRCUyMiUyMyUyMiUzRVByaXZhY3klMjBQb2xpY3klM0MlMkZhJTNFLg==" f_title_font_family="467" f_title_font_size="eyJhbGwiOiIyNCIsInBvcnRyYWl0IjoiMjAiLCJsYW5kc2NhcGUiOiIyMiIsInBob25lIjoiMzAifQ==" f_title_font_line_height="1" f_title_font_weight="700" msg_composer="success" display="column" gap="10" input_padd="eyJhbGwiOiIxNXB4IDEwcHgiLCJsYW5kc2NhcGUiOiIxMnB4IDhweCIsInBvcnRyYWl0IjoiMTBweCA2cHgifQ==" input_border="1" btn_text="I want in" btn_icon_size="eyJsYW5kc2NhcGUiOiIxNyIsInBvcnRyYWl0IjoiMTUifQ==" btn_icon_space="eyJwb3J0cmFpdCI6IjMifQ==" btn_radius="3" input_radius="3" f_msg_font_family="394" f_msg_font_size="eyJhbGwiOiIxMyIsInBvcnRyYWl0IjoiMTEiLCJsYW5kc2NhcGUiOiIxMiJ9" f_msg_font_weight="500" f_msg_font_line_height="1.4" f_input_font_family="394" f_input_font_size="eyJhbGwiOiIxMyIsInBvcnRyYWl0IjoiMTEiLCJsYW5kc2NhcGUiOiIxMiJ9" f_input_font_line_height="1.2" f_btn_font_family="394" f_input_font_weight="500" f_btn_font_size="eyJhbGwiOiIxMyIsImxhbmRzY2FwZSI6IjExIiwicG9ydHJhaXQiOiIxMCJ9" f_btn_font_line_height="1.2" f_btn_font_weight="700" f_pp_font_family="394" f_pp_font_size="eyJhbGwiOiIxMyIsImxhbmRzY2FwZSI6IjEyIiwicG9ydHJhaXQiOiIxMSJ9" f_pp_font_line_height="1.2" pp_check_color="#000000" pp_check_color_a="var(--metro-blue)" pp_check_color_a_h="var(--metro-blue-acc)" f_btn_font_transform="uppercase" tdc_css="eyJhbGwiOnsibWFyZ2luLWJvdHRvbSI6IjYwIiwiZGlzcGxheSI6IiJ9LCJsYW5kc2NhcGUiOnsibWFyZ2luLWJvdHRvbSI6IjUwIiwiZGlzcGxheSI6IiJ9LCJsYW5kc2NhcGVfbWF4X3dpZHRoIjoxMTQwLCJsYW5kc2NhcGVfbWluX3dpZHRoIjoxMDE5LCJwb3J0cmFpdCI6eyJtYXJnaW4tYm90dG9tIjoiNDAiLCJkaXNwbGF5IjoiIn0sInBvcnRyYWl0X21heF93aWR0aCI6MTAxOCwicG9ydHJhaXRfbWluX3dpZHRoIjo3NjgsInBob25lIjp7ImRpc3BsYXkiOiIifSwicGhvbmVfbWF4X3dpZHRoIjo3Njd9" msg_succ_radius="2" btn_bg="var(--metro-blue)" btn_bg_h="var(--metro-blue-acc)" title_space="eyJwb3J0cmFpdCI6IjEyIiwibGFuZHNjYXBlIjoiMTQiLCJhbGwiOiIxOCJ9" msg_space="eyJsYW5kc2NhcGUiOiIwIDAgMTJweCJ9" btn_padd="eyJsYW5kc2NhcGUiOiIxMiIsInBvcnRyYWl0IjoiMTBweCJ9" msg_padd="eyJwb3J0cmFpdCI6IjZweCAxMHB4In0=" f_pp_font_weight="500"]

Related articles

نجاحٌ فنّيّ جديد.. 5/5 على “بيلبورد” عربيّة!

نجاحٌ فنّيّ جديد.. 5/5 على "بيلبورد" عربيّة! تصدّر أربعة فنّانين...

صادق إسبر يطلق “مزايا” في الطبيعة

بعد سلسلة نجاحات فنية، أطلق الفنان صادق إسبر أغنيته...

بحث إبداعي يعيد تاريخ أليسا بتصاميم تراثية هنادي عبود

غالباً ما يشدّها الحنين الى جذورها الجنوبية، فتغوص في...

نجوى كرم ورحمة رياض: اختلافٌ لا يقبل المقارنة!

نجوى كرم ورحمة رياض: اختلافٌ لا يقبل المقارنة! بعد الأخذ...
spot_imgspot_img